تشم وأنت بالقرب منه عبق تاريخ تمددت عليه عشرات السنين، يتحدث إليك وكأن احداث الماضي حاضرة أمام ناظريه، أكثر ما يميزه ذاكرته الحديدية التي تفتت وقائع أكثر من قرن من تاريخ السودان الحديث، عاش خلال تلك السنوات أخريات عهد الثورة المهدية في السودان التي وأدت حكمها قوات المستعمر الانجليزي هربرت كتشنر في العام 1899م، ومن ثم عاقر الحكم الانجليزي الذي امتد زهاء (57) عاما.
تناول معنا الجد (محمد فزاري) إفطار رمضان، حيث كان صائما رغم نصح أبنائه وأحفاده له بالفطر ورغم عمره الذي ناهز الـ(120) عاما، حيث يقول: "أنا لا أكون على ما يرام إلا وأنا صائم ولا أشعر بالتعب في الصيام". "البيان" جلست مع الجد محمد فزاري بمنزل ابنه "علي" في منطقة الثورة الشنقيطي بأم درمان والذي ما ان طلبنا منه الحديث حتى استدار في جلسته وطلب من حفيده "محمد" إحضار "طاقيته" ليغطي رأسه حفاظا على وقاره. سألناه عن عمره فأجاب بلهجته العامية لمناطق كردفان بغرب السودان ـ بأنه لا يستطيع تحديده بالضبط لأنه لا يعرف تاريخ ميلاده وكل ما يعرفه انه ولد بدارفور وانتقل مع أهله الى كردفان وهو لايزال طفلا وان عمره تجاوز او شارف على (120) عاما.
ويضيف قائلا: "أنا والله لا أستطيع ان أحدد تاريخ ولادتي لكني تجازوت الـ 100 سنة"، ويضيف الجد فزاري: "أنا حضرت في طفولتي حكم الخليفة عبدالله التعايشي" وهو خليفة الإمام محمد احمد المهدي قائد الثورة المهدية في السودان التي امتدت من (1880 ـ 1899)، ويقول (أتذكر كل فترة حكم الإنجليز لكنني لا أتذكر المهدية).
ويواصل الجد فزاري سرده لتاريخ حياته، حيث يضيف انه وفي تلك الفترة كان شابا قويا يعمل مع الانجليز في عمليات محاربة آفة (الجراد) التي انتشرت في تلك الحقبة التي اهتم فيها المستعمر الانجليزي بالزراعة، ويضيف قائلا: "كنا نشتغل مع الانجليز في مشاريع الزراعة في مناطق كردفان، خاصة في عمليات محاربة الآفات"، وعن معاملة الانجليز لأهل البلد في ذلك الزمن يقول الجد فزاري: "الانجليز كانوا كويسين وما كانوا بيسألوا زول" ويعني ان تعامل الانجليز معهم لم تكن به قسوة، أما وسائل الحركة في ذلك الزمان فيقول الجد فزاري ان ذلك الزمن لم تكن فيه سيارات.
وأضاف: "المفتش الانجليزي ما كان يملك عربة"، ويشير الى ان الناس في ذلك العهد كانوا يعتمدون على الدواب في حلهم وترحالهم كالثيران والجمال والحمير، ويضيف: "أهلي في رحلتهم من دارفور قضوا حولا كاملا الى ان وصلوا الى منطقة شاركيلا جنوب مدينة أم روابة بشمال كردفان"، وحياتنا كانت تعتمد على الزراعة والبقر، ويقول الجد فزاري ان التعليم في ذلك الزمن لم يكن متاحا إلا لقلة من الناس في المدن لذلك لم يجد هو حظه من التعليم، وأضاف: "مدارس مافي إلا في المدن الكبيرة".