بحر الامل الادارة
عدد المساهمات : 1485 نقاط : 2097 السٌّمعَة : 40 تاريخ التسجيل : 05/02/2012 العمر : 40 المزاج : منتظر بشوق
| موضوع: فلماذا كل هذا البكاء والحزن والسهر إلى منتصف الليالي؟ 16/11/2012, 11:29 am | |
| <blockquote>
بسم الله الرحمن الرحيم ها قد اكتملت اليوم السنة الثانية والعشرون من عمري, ولا زلت أواصل دراستي التي أهواها كثيراً في فرع التاريخ, لكنني أشعر ـ وبثقة تامة ـ أنّ عقلي أكبر بكثير من هذا السن, بل لا أبالغ لو قلت: إن لي عقلاً كعقل الشيوخ, لكن همتي وعنفواني وبحمد الله همة الشباب وعنفوانه, ولا أنكر أنّ الفضل في عمق تفكيري وسعة عقلي يرجع إلى الله تعالى الذي رزقني ذلك الصديق الصدوق... أجل إنه صديقي الحميم (سعيد), بل أخي الذي يكبرني بخمس عشرة سنة, لكنه لم يُشعرني يوماً بأنه أكبر مني ... أجل أعطاني (سعيد) من تجاربه وعقله النيّر ما استطعت به أن اختزل الزمن, ولا أخطأ لو قلت: إنه معلمي في مدرسة الحياة, وصدق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث يقول: (من دعاك إلى الدار الباقية وأعانك على العمل لها فهو الصديق الشفيق ( ولا أنسى حين لقيته قبل سبع سنين تقريباً في مسجد محلتنا بعد صلاتي الظهر والعصر, ولفت انتباهي حينها ما عليه من الوقار والهيبة وقلة الكلام. ولا أنسى حينها إذ كان الحاج (حسين) خادم المسجد يومها منهمكا في اكساء المسجد بالقماش الأسود وتثبيته على الجدران, فتساءلنا فيما بيننا - وكنا حينها شباباً في مقتبل العمر- لماذا يقوم الحاج (حسين) بهذا العمل؟ لماذا سيرتدي مسجدنا قميصه الأسود؟ بل علينا ـ نحن أيضاً ـ أن نلبس ثياباً سوداء؛ لأن شهر محرم الحرام قد أقبل؛ فلماذا سنقوم بهذا العمل؟كما ستبدأ بعد يومين مجالس العزاء واللطم على الصدور, وسيعم البكاء والحزن والسهر إلى منتصف الليالي؛ فلماذا كل هذا؟ لقد أجاب أحد الفتية في حلقتنا التي عقدناها في المسجد قائلاً: ألا تعلمون أن كل هذا لأجل مصاب الإمام الحسين (عليه السلام) الذي هو ابن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ إذ إنه قتل مع أهل بيته وصحبه, وسُبيت نساؤه في مثل هذه الأيام, قبل أكثر من 1360 سنة, فنحن نحيي هذا المصاب الأليم اكراماً لهم.وقال آخر: سمعت أبي يقول: إنّ المسلمين جميعاً رووا أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكى على الحسين (عليه السلام) حينما أخبره جبرائيل بأنه سيقتل في كربلاء, وإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعظمته بكى على الحسين قبل شهادته فكيف بنا نحن المسلمون المأمورون باتباع النبي؟!وتابع أبي كلامه قائلاً: إنّ الصحابي ابن عباس رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام يوم قتل الإمام الحسين (عليه السلام)؛ أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه, قال (ابن عباس): يا رسول الله ما هذا؟ قال: (دم الحسين وأصحابه لم أزل اتتبعه منذ اليوم(وقال آخر: إنّ إحياء ذكرى عاشوراء هو من احياء أمر أهل البيت عليهم السلام الذي ذكرته الروايات, كما هو احياء لأمر الدين الحنيف.أما أنا فمع كوني لا أشك في هذه الأجوبة وعظمتها لكنني كنت أحب الاطلاع أكثر فأكثر, فارتسمت على ناظريّ علامات القبول الممزوجة بشيء من الاستفسار طالباً للمزيد.كان (سعيد) ـ ذلك الإنسان الرائع ـ جالساً يترقب ما نقول, وما أن وقعت عيني على عينيه فَهِمَ ما في نفسي, وقد ساعده على هذه الصفة تخصصه في علم النفس الذي مزجه مع إيمانه, فكان نوراً على نور, إذ إنه أكمل دراسته الجامعية في هذا الاختصاص.قام (سعيد) من مقامه وتقدم نحونا بخطوات متئدة وهو بادي البسمة قائلاً:عذراً أيّها الإخوة الأعزاء لقد سمعت حديثكم لا عن فضول منّي فهل تأذنوا لي بمشاركتكم؟تهللت وجوهنا جميعاً إذ لم يُعهد من (سعيد) أن شاركنا يوماً حديثاً، وكم كنّا نتمنى أن نتعرّف عليه من قرب, لكن فارق السن بيننا يحجزنا عن ذلك, فقلنا جميعاً: على الرحب والسعه أيّها الأخ الكبير.فقال: اسمي سعيد وبيتي في الجهة المقابلة لمحلتكم.فبادرته قائلاً: نحن نعرفك من مواظبتك على صلاة الجماعة ونحب أن نتعرف عليك, أما نحن: فأنا اسمي (محمد), وهذا جاري وصديقي (ياسر), وهذا جارنا (حسن), وهذا(كمال(فتبسّم سعيد قائلاً: لقد سمعت أسئلتكم حول عاشوراء ومراسم العزاء في محرم الحرام, وسمعت الأجوبة عليها, فهل ترغبون أن نواصل الحديث؟قلنا كلّنا معاً: أجل لا بأس, فهو حديث ممتع ونحن لم نوسعه علماً.قال: استميحكم عذراً, إنّ أسئلتكم المتقدمة حول اقامة عزاء سيد الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام) يمكن لي أن أقسمها إلى أربعة أسئلة, تعميقاً للموضوع, ولكن دعوني أبدأ بمقدمة مختصرة فأقول:بعث الله تعالى نبيه محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) لهداية الناس وارشادهم إلى طريق الحق والسعادة في الدنيا والآخرة, ولقد حدّد الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أركان الهداية بأمرين لا ثالث لهما وهما: (كتاب الله, وعترته أهل بيته) وهذا مما اتفق عليه المسلمون في الحديث الصحيح بل المتواتر عند الجميع الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (يا أيّها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا؛ كتاب الله, وعترتي أهل بيتي(لكن أغلب الأمة ـ مع الأسف ـ تركت أهل البيت ولم تتمسك بهم, وبذلك فقد فارقت ركناً أساسياً من ركني الهداية, الأمر الذي أدى إلى ظهور الانحراف في المجتمع بصورة تدريجية, فصارت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي هي من أهم الواجبات الدينية حبراً على ورق, من دون أن يجرأ أحد على تطبيقها أو الحديث عنها, فوصل الأمر إلى أن يعتلي منصة الحكم ويتربع على عرش الدولة أمثال يزيد بن معاوية, الشارب للخمر, والمتجاهر بالمعاصي والكبائر من الذنوب, حتى أن الله تعالى بتر عمره ولم يحكم إلا ثلاث سنين, ففي الأولى قتل الإمام الحسين (عليه السلام) , وفي الثانية هجم على المدينة المنورة وقتل أكثر من سبعين صحابياً وسبعمائة تابعي في وقعة (الحرة), وفي الثالثة حاصر الكعبة ورماها بالمنجنيق فهدمها.المهم ـ يا أخوتي ـ إنّ الحسين (عليه السلام) عندما رأى أنّ معاوية بن أبي سفيان نصّب ولده يزيد خليفة على المسلمين قام بثورته العظيمة ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, ويحرك ضمير الأمة؛ ليعيد شجرة الإسلام غضة طرية, يسري في عروقها تعاليم النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) , فنراه ينادي حين خروجه إلى كربلاءإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً, إنّما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله وسلم) , أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر..).فأراد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يرفع بدمه ودم أولاده وأخوته وأصحابه علماً للهداية, ومناراً لكل من ينشد الاصلاح ويرفض الفساد والظلم عبرالأجيال.أما الأسئلة الأربعة التي فهمتها من سؤالكم المتقدم فهي: اولاً: السؤال الاول:تابع سعيد حديثه قائلاً:أما السؤال الأول فهو: لماذا يجب احياء ذكرى حادثة وقعت قبل أكثر من 1360 عاماً؟ فهي واقعة وقعت في زمن قديم طوته الأيام والسنون, فما المسوغ لإعادة ذكرها في الوقت الحاضر؟والجواب على هذا السؤال ليس بالأمر الصعب؛ إذ إنه واضح لكل من يتأمل قليلاً, أفلا ترون أن تعظيم الحوادث الماضية واحترامها من الأمور التي دأبت عليها جميع الأمم على وجه الأرض, سواء أكانت تلك الحوادث مرتبطة بأشخاص كان لهم دور في التقدم العلمي للمجتمع كالعلماء والمخترعين, أم كانت متعلقة بأشخاص كان لهم دور في انقاذ مجتمعاتهم سياسياً واجتماعياً؛ فإعادة ذكرهم إنّما هو من باب العرفان بالجميل لهذه الشخصيات, وعرفان الجميل من الأمور الفطرية التي أوجدها الله تعالى في النفس البشرية, فكل واحد منا يحترم من أحسن إليه وخدمه.كما يمكننا ـ أيّها الشباب ـ أن نقول: إنّ الحوادث العظيمة التي حدثت في تاريخ أي مجتمع لها آثار لا يمكن أن تُنكر لمستقبل ذلك المجتمع, فتجديد الذكرى لهذه الحوادث هو في واقعه اعادة قراءة لتلك الحوادث كي ينتفع الناس بها, بل إنّ محاكاة تلك الحادثة له من البركات أضعاف ما يكون لنفس الحادثة حين وقوعها.ونحن ـ أيّها الأعزاء ـ نعتقد بأن حادثة عاشوراء حادثة عظيمة في تاريخ الإسلام, ولها دورٌ أساسيٌ في تحديد طريق الهداية للناس, وتمييز الحق من الباطل, لذا فإنّ في إحيائها بركات لا تحصى على مجتمعنا في هذا العصر. ثانيااً: السؤال الثاني: أما السؤال الثاني الذي يمكن أن نستمده من سؤالكم الأصلي المتقدم حول جدوى إقامة الشعائر في عاشوراء الإمام الحسين (عليه السلام) فهو:أننا لا نشك في أن احياء ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) لها فوائد جمّة للمجتمع, ولكن ألا يمكن أن نحيي ذكرى عاشوراء بطريقة أخرى غير هذه الطرق المتعارفة؟ إذ إن إقامة الشعائر لا ينحصر في البكاء واللطم ولبس السواد والبقاء إلى منتصف الليالي, وما يتبع ذلك من إضاعةٍ للأعمال الذي يستتبعه أضراراً اقتصادية في البلد؛ لأن من يسهر الليل سيضعف ـ حتماً ـ عن العمل في النهار؛ فلماذا لا نقيم بدل كل ذلك جلسات علمية أو نعقد مؤتمرات أو ندوات وما شابهها, وفي ذلك تذكير للناس بمصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) مع أقل ما يمكن من الأضرار؟!هنا سكت سعيد عن كلامه.أما نحن فلم تزل أعيننا متجهة نحو وجهه, وجالت أفكارنا تبحث عن جواب لمثل هذا السؤال, مع علمنا مسبقاً أن الجواب حاضر عند سعيد, لكن لا ندري بم سيجيب.قطع سعيد سلسله أفكارنا وظنوننا بقوله:أخوتي الكرام: إنّ الجواب على هكذا سؤال يحتاج قليلاً من الالتفات والانتباه فأرجو أن تصغوا إلي جيداً:إن الجواب على هذا السؤال يحتاج منا أن نرجع قليلاً إلى علم النفس، لنتعرف من خلاله على جانب بسيط من (النفس الإنسانية)، ولنرى هل أن العوامل التي تؤثر في السلوك الاختياري للإنسان تنحصر بالمعرفة فقط, أي بكلام أبسط: هل العلم والمعرفة وحدهما هما المؤثران في سلوك الإنسان، أم أن السلوك يحتاج إلى عامل آخر غير العلم؟فنحن ـ يا أخوتي ـ عندما نقوم بعمل ما نلاحظ أن هناك أمرين دفعانا إلى هذا العمل أو السلوك:الأمر الأول:هو المعرفة أو العلم، أي بعد أن علمنا الفائدة من هذا العمل وأدركناها عقلاً باستدلال عقلي أو تجربة أو ما شاكل ذلك من الطرق الأخرى, لكن ـ يا أخوتي ـ المعرفة وحدها ليست كافية لتحريكنا نحو أداء العمل المعين، بل هناك عامل آخر وهو:الأمر الثاني:- يعبر عنه بـ (العواطف) أو (الميول) أو (الأحاسيس) أو (الدوافع)، فهذه تساهم في تحريكنا نحو هذا الفعل أو السلوك المعين سواء كان هذا العمل سياسياً أم اجتماعياً أم...فهذان العاملان أشبه ما يكونا بسيارة تتحرك في الظلام الدامس, فهي تحتاج إلى ضوء يسترشد سائقها به في طريقه, لئلا يقع في الحفر أو في سفح جبل مثلاً, إلا أن الضوء وحده لا يكفي لتحريك السيارة فهي بحاجة إلى محرك(طاقة ميكانيكية) لتحريكها, ونفس الأمر موجود في الإنسان, فهو بحاجة إلى العلم والمعرفة في سلوكه؛ ليتعرف على الضار ويميزه عن النافع, لكن المعرفة وحدها لا تكفي إذ يفتقر الإنسان ـ مع معرفته ـ إلى محرك يدفعه للقيام بالأعمال. والمحرك هو العامل النفسي أو العاطفة, فمثلاً لو علم شخصٌ أن طعاماً ما مفيد له جداً لكن لا توجد عنده الشهية الكاملة لأكله, حينئذ لن يستطيع أكله مع علمه بفائدته لبدنه.إذن لابدّ من توفر الدافع والميل كي يحصل الأكل.فتعالوا معي - يا أعزائي - نطبق ما توصلنا إليه على قضيتنا التي هي محور الكلام, وهي: قضية عاشوراء, فبعد أن عرفنا الدور المهم الذي أدته حركة سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) في سعادة البشرية, وانها ميزت بين الحق والباطل، وكشفت زيغ الباطل وتجرده عن كل القيم الإنسانية؛ فإنّ معرفتنا هذه لوحدها لا تحفزنا لأداء أعمال مشابهة للأعمال التي قام بها سيد الشهداء (عليه السلام ,( بل إن هذه المعرفة تكون مؤثرة متى ما كان معها دافع يدفعنا نحو ذاك العمل, فالمؤتمرات والندوات والجلسات العلمية ممكن أن توفر لنا عنصر المعرفة فقط، لكننا نحتاج إلى عامل آخر كي تثمر تلك المعرفة.والجواب سيتضح أكثر فيما لو عملنا مقارنة بين حادثة رأيناها رأي العين وأخرى سمعنا بها فقط, كما لو سمعنا أن في مدينتنا شخصاً معدماً فقيراً فهل سنتأثر كما لو كنا رأينا ذلك الفقير بملابسه الرثه القديمة, وبجسمه النحيف الشاحب, وعلامات الانكسار والحياء بادية على قسمات وجهه, ماداً يده, سائلاً العون من الناس؟فالله تعالى خلق الإنسان بشكل تؤثر فيه المشاهدة أكثر من النقل والسماع, فإذا جسدنا واقعة كربلاء بالطريقة المعروفة - كما نفعل اليوم ـ فإنّ هذا سيترك أثراً أعمق مما تتركه معرفة الواقعة والعلم بها فقط.أما الأضرار الاقتصادية ـ التي هي في حقيقتها ليست بأضرار, بل هي منافع اقتصادية فضلاً عن كونها روحية ومعنوية ـ فإنها لا تعادل شيئاً في إقامة هذه الشعائر, فحفظ الدين وحفظ رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) , ومنهجه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذب عن حياض الدين لا يساوي شيئاً مهما غلى ثمنه.هنا بدت البسمة على شفاهنا جميعاً من هذا الجواب القيم والدقيق, وتمنينا لو يكمل سعيد كلامه، وأدركنا بغيتنا حينما رأينا سعيداً يستمر بالكلام قائلاً:أيّها الأحبة: كلّنا نعلم بواقعة كربلاء ونعلم الكثير من تفاصيلها، و لكن أسألكم: هل يكفي هذا العلم في اجراء دموعنا وبكائنا وظهور حزننا؟!فأجبنا كلنا: كلا.. كلا.. لا يكفي ذلك.قال سعيد: لكن انظروا عندما نحضر مجالس العزاء ويقرأ الخطيب جزءاً من الواقعة, فإننا وبلا اختيار نبدأ بالبكاء, كما لو أن أحدنا فقد أباه أو أخاه، خصوصاً إذا كان صوت الخطيب شجياً وعليه مسحة حزن, واستطاع أن يصور الواقعة تصويراً جيداً.إذن, فالعلم وحده لا يكفي بل لا بد أن نسمع أو نشاهد مشاهد من تلك الواقعة بشكل ملموس, كي نستشعر القضية بصورة أعمق, وهذا سيؤدي إلى معرفة حقيقة عاشوراء وتحريك المشاعر نحوها, مما يؤدي بالمجتمع إلى الانتهال من نبع ثورة الحسين (عليه السلام( والسير على نهجها.وبهذا نعرف أن البحث العلمي وحده والندوات وحدها لا يمكن أن تؤدي دور الشعائر, بل لابدّ من أن توجد بعض المشاهد التي تحرك عواطفنا, فالواحد منّا إذا خرج صباحاً من داره في اليوم الأول من شهر محرم الحرام ورأى معالم الحزن والأعلام السود قد رفعت على سطوح المنازل, فإنّ ذلك سيترك أثراً في نفسه لا يشبه الأثر الذي يتركه مجرد العلم بأنه غداً سيكون اليوم الأول من شهر محرم, وكذا مواكب اللطم والعزاء.إلى هنا أصبح واضحاً لكم ـ أيّها الأعزاء ـ أن تخليد ذكرى عاشوراء له دورٌ مهمٌ في إيجاد عامل آخر غير المعرفة والعلم, وهذا العامل (العاطفة والميل) له تأثير مهم في تحريك الإنسان نحو الحسين (عليه السلام).فالجواب على السؤال أن نقول: إن الإنسان لا تحركة المعرفة فقط, بل إن العاطفة لها دورٌ أساسيٌ أيضا في تحريكه, وهذه العاطفة لابدّ من تقويتها حتى تؤدي دورها، والذي يقوي العاطفة هو احياء الشعائر الحسينية. ثالثاً: السؤال الثالث: وبعد فاصلٍ قصير من الصمت ابتدأنا (سعيد) قائلاً:أرجو أن لا أكون أطلت عليكم فهل ترون أن نؤجل بقية كلامنا للغد؟فقلنا جميعاً: كلا.. كلا.. لم تطل، ونرجو منك أن تتابع الكلام وتحدثنا عن السؤال الثالث الذي فهمته من كلامناحول الشعائر الحسينية.فقال (سعيد): أما السؤال الثالث الذي تضمنه سؤالكم السابق فهو:لماذا البكاء على الحسين (عليه السلام) , فالبكاء ليس هو الطريق الوحيد لإثارة عواطف الناس وأحاسيسها, بل هناك الفرح والسرور، وممكن أن تثار بهما العاطفة, فلماذا خصوص البكاء والحزن في المراسيم والشعائر الحسينية؟! بل لماذا اللطم وضرب الصدور؟ لماذا لا نحتفل ونوزع الحلوى بين الناس لأجل ذلك؟فماذا تقولون أنتم في جواب هذا السؤال؟فسبقت أنا أصحابي وقلت: نحن نعلم بالوجدان أن الضحك غير مناسب في مثل هذه المناسبات لكنني لا أعلم الجواب الدقيق لذلك.فقال (سعيد): لقد اقتربت في كلامك من الجواب, ولكن الأدق أن يقال: إن العواطف والأحاسيس لها أنواع مختلفة, وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى دليل, فنحن نعلم أن الإنسان يضحك في حالات الفرح ويبكي في حال الحزن, ويتألم في حال الألم و... إلى ما شاء الله من الأحاسيس, وإثارة أي نوع من العاطفة لابدّ أن يكون مناسباً لتلك الحادثة, فلا يمكن للإنسان أن يبكي بكاءً حزيناً ويقول: أنا حزين وأبكي لأنني فرحان, كما لا يمكنه أن يضحك في حال الحزن!!فالمهم إن نوع العاطفة يتناسب مع نوع الحادثة, فشهادة الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وصحبه في تلك الحادثة المهولة التي أعطت أعظم الدروس في التضحية من أجل العقيدة والمبدأ لا يناسبها الفرح والسرور؛ لأنها بنفسها حادثة محزنة ومؤلمة, غاية الحزن والألم فلابدّ فيها من عاطفة تلائهما, ولابدّ من القيام بعمل يثير حزن الناس, ويجري دموعهم, ويفرس العشق والحماس والحرقة في قلوبهم, والشيء الذي يمكن أن يقوم بهذا الدور في هذه الحادثة هو إقامة مراسم العزاء والبلاء, بينما السرور والضحك لا يستطيع أن ينهض بهذا الدور.إن الضحك لا يخلق من الإنسان إنساناً طالباً للشهادة.ولا يعبّد الطريق أمامه كي يتحمل أعباء آلام ومصاعب الحروب التي تفرض على المؤمنين. إن مثل هذه الأمور تحتاج إلى عشق نابع من البكاء والحماس والحرقة, وسبيل ذلك هو إقامة مجلس العزاء. وبعد فاصلٍ قصير من الصمت ابتدأنا (سعيد) قائلاً:أرجو أن لا أكون أطلت عليكم فهل ترون أن نؤجل بقية كلامنا للغد؟فقلنا جميعاً: كلا.. كلا.. لم تطل، ونرجو منك أن تتابع الكلام وتحدثنا عن السؤال الثالث الذي فهمته من كلامناحول الشعائر الحسينية.فقال (سعيد): أما السؤال الثالث الذي تضمنه سؤالكم السابق فهو:لماذا البكاء على الحسين (عليه السلام) , فالبكاء ليس هو الطريق الوحيد لإثارة عواطف الناس وأحاسيسها, بل هناك الفرح والسرور، وممكن أن تثار بهما العاطفة, فلماذا خصوص البكاء والحزن في المراسيم والشعائر الحسينية؟! بل لماذا اللطم وضرب الصدور؟ لماذا لا نحتفل ونوزع الحلوى بين الناس لأجل ذلك؟فماذا تقولون أنتم في جواب هذا السؤال؟فسبقت أنا أصحابي وقلت: نحن نعلم بالوجدان أن الضحك غير مناسب في مثل هذه المناسبات لكنني لا أعلم الجواب الدقيق لذلك.فقال (سعيد): لقد اقتربت في كلامك من الجواب, ولكن الأدق أن يقال: إن العواطف والأحاسيس لها أنواع مختلفة, وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى دليل, فنحن نعلم أن الإنسان يضحك في حالات الفرح ويبكي في حال الحزن, ويتألم في حال الألم و... إلى ما شاء الله من الأحاسيس, وإثارة أي نوع من العاطفة لابدّ أن يكون مناسباً لتلك الحادثة, فلا يمكن للإنسان أن يبكي بكاءً حزيناً ويقول: أنا حزين وأبكي لأنني فرحان, كما لا يمكنه أن يضحك في حال الحزن!!فالمهم إن نوع العاطفة يتناسب مع نوع الحادثة, فشهادة الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وصحبه في تلك الحادثة المهولة التي أعطت أعظم الدروس في التضحية من أجل العقيدة والمبدأ لا يناسبها الفرح والسرور؛ لأنها بنفسها حادثة محزنة ومؤلمة, غاية الحزن والألم فلابدّ فيها من عاطفة تلائهما, ولابدّ من القيام بعمل يثير حزن الناس, ويجري دموعهم, ويفرس العشق والحماس والحرقة في قلوبهم, والشيء الذي يمكن أن يقوم بهذا الدور في هذه الحادثة هو إقامة مراسم العزاء والبلاء, بينما السرور والضحك لا يستطيع أن ينهض بهذا الدور.إن الضحك لا يخلق من الإنسان إنساناً طالباً للشهادة.ولا يعبّد الطريق أمامه كي يتحمل أعباء آلام ومصاعب الحروب التي تفرض على المؤمنين. إن مثل هذه الأمور تحتاج إلى عشق نابع من البكاء والحماس والحرقة, وسبيل ذلك هو إقامة مجلس العزاء. رابعاً: السؤال الرابع:بقي سؤال واحد كان بودي أن الحقه بالأسئلة السابقة من الممكن أن يثار وبالخصوص في زماننا هذا, زمن المغالطات والتلاعب بالألفاظ لتحقيق الأغراض.فلقائل أن يقول: آمنّا معكم بأن تاريخ الحسين (عليه السلام) تاريخ مشرق يجب تخليده, ولابدّ من إقامة العزاء في ذكراه, إلا أنكم في عزائكم هذا تفعلون أمراً آخر، وهو أنكم تلعنون أعداء الحسين وقتلته, وهذا إحساس سلبي لا يصنع منّا أناساً متحضّرين, فعلينا أن نتعامل مع جميع الناس بوجه حسن؛ بالابتسام إليهم, والتسامح معهم, فالمجتمع اليوم لا يستسيغ هذه الأعمال, علماً أن الإسلام دين محبة وتسامح ورحمة ورأفة؟والجواب على ذلك: إن من يطرح هكذا أفكار إن كان جاهلاً وينطق عن جهله, فمن السهولة اجابته إلاّ أن الكثير ممّن يطرح هذه الأفكار إنّما لهم أغراض خاصة أو يريدون تنفيذ ما يخطّطه الآخرون, لكننا نفترض أن السؤال سؤال علمي, فلابدّ حينئذ من الاجابة عليه بصورة علمية, مهما كان مصدره, ويمكن الإجابةً عليه بأن نقول:إنّ النفس البشرية كما أنها لا تحتوي على العلم فقط بل لابدّ لها من العاطفة أو الأحاسيس, فهي في نفس الوقت لا تحتوي على الأحاسيس الإيجابية فقط, بل ضمت أحاسيس سلبيه كذلك، فكما أن الفرح قد غرس فينا فكذلك الحزن, فالله تعالى أوجد فينا قابلية الضحك كما أوجد قابلية البكاء، ولكل منهما دور في حياة الإنسان, فنحن نحتاج إلى الضحك في محله, ونحتاج إلى البكاء في محله, فإذا عطلنا أحدهما فإننا عطلنا جزءاً من وجودنا وسيصبح خلقه فينا لغواً حينئذٍ.كما أن الله تعالى خلق فينا المحبة لنبرزها للآخرين الذين يخدموننا أو للأفراد الذين يملكون كمالاً ما، سواء كان كمالاً جسدياً أو روحياً أو عقلياً, فعندما يتعرف المرء على إنسان يمتلك كمالاً ما فإنه ينجذب إليه, كما يوجد في الإنسان شيء يقابل المحبة موجود في فطرته وهو البغض والعداوة, يبرزه الإنسان لمن أراد به السوء والأذى, وهذا أمر فطري.وليس هناك عدو أعدى من الذي يريد سلب الدين عن الإنسان, فهذا العدو هو أشد الأعداء ضراوة؛ لأنه يريد سلب السعادة الأبدية من الإنسان, قال الله تعالى}: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا){ سورة فاطر: الآية 6) فالشيطان عدو لنا؛ لأنه يريد سلب ديننا عنّا, ولا يمكن في حال من الأحوال أن نتصالح مع الشيطان, وإذا حدث أن تصالح إنسان مع الشيطان فسينقلب ذلك الإنسان بنفسه ويصير شيطاناً, فإن كان لابدّ من محبة أولياء الله وعباده المخلصين, فلابدّ حينئذٍ من معاداة أعداء الله؛ لأن الإنسان إذا لم يعاد أعداء الله ويبغضهم سيصبح بالتدريج منهم, ويكون سلوكه كسلوكهم, وسيقبل أعمالهم وأفعالهم وأقوالهم, نتيجة لمعاشرته لهم.أنظروا ـ يا أخواني ـ إلى القرآن ماذا يقول}: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ{ (سورة الأنعام: الآية 68) يعني أترك الذين يهينون الدين ويستهزئون به. ثم يقول في موضع آخر إن من لا يقبل النصيحة السابقة فإن الله تعالى سيلحقه بأولئك المستهزئين المهينين للدين, قال الله تعالى}: إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا{ (سورة النساء: الآية 140)عقاب كل من أحب الذين يستهزئون بالدين أن يحشر يوم القيامة مع المنافقين. وكلا الفريقين المستهزئ والمنافق في النار, والسبب واضح, لأن من يحب ويودّ المستهزئ بالدين المستهين به فإنه بالتدريج سيتأثر بأفكاره وكلامه, وحينئذ سيُحدث كلامه شكاً في نفس ذلك المحب, وإذا حدث الشكّ في نفسه مع كونه يظهر الإسلام فسيكون ذلك نفاقاً؛ لأن النفاق هو إظهار شيء من واقع حياتنا. لاحظوا أعزائي جسم الإنسان فهو مركب على هيئة بحيث يستطيع أن يجذب المواد المفيدة إليه لغرض البناء والنمو, وفي نفس الوقت هو مجهّز بنظام دفاعي يطرد الميكروبات والجراثيم ويقاومها ويطردها إلى الخارج, وإذا ضعف هذا النظام الدفاعي وتغلبت الجراثيم فهذا سيؤدي إلى الموت حتماً، فلا يمكن أن نقول: إن هذه الجراثيم والميكروبات ضيف عزيز على الجسم يجب استقباله واحترامه والترحيب به؛ لأن في ذلك هلاكاً للجسم.وهذه سنة إلهيّة فقد جعل الله تعالى لكل كائن حي نظامين؛ نظاماً للجذب وآخر للدفع, نظاماً لجذب الأمور المفيدة, وآخر لدفع وطرد الأمور المضرة والخطرة, وكذا الآخر في نفس الإنسان وروحه, فهكذا استعداد لكلا الأمرين موجود فيها بالفطرة حتى تستقيم النفس, فلابدّ من عامل جذب نفسي نتقبل به الأفراد المفيدين لنا, ونتقرب إليهم, ونتعلم منهم, وفي المقابل لابدّ من عامل دفع وطرد نعادي به الأفراد المضرين لمصير المجتمع, قال الله تعالى في وصف نبيه إبراهيم (عليه السلام: }قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرء?ؤا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ { (سورة الممتحنة: الآية 4)فالقرآن يحثنا على التأسي بإبراهيم (عليه السلام) وأصحابه, إذ إن النبي إبراهيم (عليه السلام) له منزلة خاصة في الثقافة الإسلامية, بل إنّه هو الذي أطلق اسم الإسلام على ديننا} هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ) سورة الحج: الآية 78(فلننظر ماذا فعل إبراهيم (عليه السلام) مع قومه الذين عادوه وأصحابه, وأخرجوهم من ديارهم حيث قالوا لهم}: إِنَّا بُرء?ؤا مِنكُمْ{ أي إنهم أعلنوا البراءة منهم ومن أفعالهم.ولم يكتفِ إبراهيم (عليه السلام) وأصحابه بذلك بل قالوا لهم}: كَفَرْنَا بِكُمْ,{ فالذي نفعله نحن بلعننا لأعداء الحسين وأعداء الإسلام إنما هو تأسٍ بإبراهيم (عليه السلام) وأصحابه,والقرآن يأمرنا بذلك ويقول: أعلنوا براءتكم من أعداء الدين, فليس من الصحيح أن يكون الإنسان مبتسماً على الدوام مع كل أحد وفي كل الظروف, بل عليه ـ وفي بعض المواقف ـ أن يكون عبوساً مع كل من يريد هدم الدين, أو يريد أن يعادي الحسين ويسعى إلى تقويض أهداف ثورته.فإذا لم نعاد من يعادون ديننا فسوف ننجذب بالتدريج إليهم, ثم نصبح يوماً بعد يوم منهم, ونكون نحن أعداء للدين.المسألة المهمة ـ أيّها الإخوة ـ التي عليَّ أن أبينها هنا ولا يمكنني اغفالها هو: إنّه لابدّ أن نتعرف بالدقة على موارد الجذب وموارد الدفع؛ لأنها في كثير من الموارد تختلط بعضها ببعض, بل قد تصبح على العكس, فنقوم بدفع ما يجب جذبه أو جذب ما يجب دفعه, فمثلاً لو أن شخصاً كان يحمل مفاهيم خاطئة (أي أنه جذب ما يجب دفعه) ثم بينّا له خطأه واقتنع ورجع عن خطائه فمثل هذا الشخص لا يصحّ أن نعاديه, إذ مجرد ارتكاب الشخص لذنب معين لا يصح أن نعاديه ونرفضه من المجتمع؛ لأنه مريض يحتاج إلى علاج.أما الشخص المتعمد والذي يروّج الفحشاء والمنكر ويعلن عداوته لأولياء الله ففعله هذا خيانة وخبث, فعلينا أن نعاديه وندفعه.فتلخص أعزائي مما تقدم: إن احياء مراسم عاشوراء هو تجديد لحياة الحسين (عليه السلام) , للاستفادة منها بأفضل ما يمكننا استفادته, ولا يمكن أن نكتفي بالبحوث والندوات العلميّة, لأن الإنسانية بحاجة إلى عواطف تسير جنباً إلى جنب مع العلم والمعرفة, كجناحي الطائر فلا يكفي أحدهما, كما لا يصحّ أن نستقبل عاشوراء بعواطف الفرح والسرور؛ لأنها لا تتناسب مع الطبيعة المأساوية المروعة ليوم عاشوراء, وبالتالي فكما يجب السلام على أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) وحبه وتوليه يجب أيضا البراءة من أعدائه ولعنهم ولعن جميع أعداء الدين, فلا يمكننا أن نستفيد من بركات الحسين ما لم نزح أعداء الحسين عن أنفسنا, فإن فعلنا ذلك صرنا حسينيين.بعد ذلك قام سعيد وودّعنا قائلاً: أنا أرغب أن نواصل جلستنا ولكم اختيار الموضوع الذي ترغبون في التحدث حوله.وهكذا استمر (سعيد) في جلساته معنا, وكنا كل يوم نزداد فيه تبصرة وعلماً منه بفضل الله تعالى. منقول </blockquote> | |
|